Lebanon News I ليبانون تابلويد : أخبار الساعة من لبنان والعالم!


قراءة في مشروع الانتظام المالي :لبنان في مرآة اليونان وآيسلندا وقبرص

تتأرجح قراءة قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع:بين كسر المحظور وإعادة تعريف الخسارة.

السبت ٢٠ ديسمبر ٢٠٢٥

اخبار ليبانون تابلويد الآن عبر خدمة
اضغط هنا

ليبانون تابلويد- أعلنت الحكومة اللبنانية برئاسة نواف سلام مشروع قانون "الانتظام المالي واسترداد الودائع" بوصفه مدخلًا ضروريًا لمعالجة واحدة من أعمق الأزمات المالية في التاريخ الحديث للبنان.

وللمرة الأولى منذ انهيار 2019، تنتقل السلطة التنفيذية من خطاب إدارة الأزمة إلى محاولة تشريعها ضمن إطار قانوني واضح.

غير أن هذه الخطوة، على أهميتها، تفتح نقاشًا واسعًا حول مضمون العدالة المالية، وحدود الممكن سياسيًا، ومخاطر إعادة تحميل المجتمع كلفة انهيار لم يصنعه.

من حيث المبدأ، يُحسب للحكومة اعترافها الصريح بوجود فجوة مالية كبيرة، وبأن استعادة الثقة لا يمكن أن تتم من دون تحديد الخسائر وتوزيعها.

هذا الاعتراف يشكّل قطيعة مع سنوات من الإنكار والمماطلة، ويضع الدولة أمام مسؤولياتها تجاه المودعين والاقتصاد.

كما أن ربط المشروع بمعايير صندوق النقد الدولي يعكس إدراكًا لحجم العزلة المالية التي يعيشها لبنان، لكن الإشكالية لا تكمن في الإعلان، بل في مضمون التوزيع وآلياته. فمشروع القانون، كما سُوّق، يعد بحماية صغار المودعين واسترداد ودائعهم تدريجيًا، لكنه لا يقدّم حتى الآن ضمانات واضحة بأن ما سيُسترد هو القيمة الفعلية للودائع، لا قيمتها الاسمية المُهترئة بفعل الزمن والتضخم والانهيار النقدي. وهنا يتحول الاسترداد من حق إلى عملية إدارة للخسارة.

أما في ما يخص المودعين المتوسطي وكبار الحجم، فيبدو المشروع أكثر التباسًا. إذ يجري الحديث عن أدوات مالية طويلة الأجل وأوراق مدعومة بالأصول، ما يثير مخاوف جدية من نقل عبء الأزمة من ميزانيات المصارف والدولة إلى جيوب المودعين، تحت عنوان «إعادة التوازن».

وفي غياب مقاربة صريحة لمسألة اقتطاع الرساميل المصرفية وتحميل المساهمين الخسائر أولًا، تبقى العدالة موضع شك.

نقطة القوة الأساسية في الطرح الحكومي تكمن في إعلان "التزامات الدولة تجاه مصرف لبنان"، وهي خطوة طال انتظارها. غير أن التجربة اللبنانية مع الالتزامات والتدقيقات السابقة تفرض الحذر.

سياسيًا، يواجه المشروع اختبارًا مضاعفًا: فهو يحتاج إلى إقرار في برلمان منقسم، ويصطدم بمصالح راسخة لقوى سياسية ومصرفية. كما أن أي انطباع بأن القانون يشكّل "تسوية على حساب المودعين" سيقوّض ما تبقى من ثقة شعبية، ويضع الحكومة في مواجهة مع الرأي العام، خصوصًا أنها ترفع شعار العدالة والإصلاح.

ومن المتوقع أن تنتظم معارضة شرسة للمشروع الحكومي تحت شعار "لائحة الشرف للنواب" أطلقها رئيس لجنة الإقتصاد البرلمانية النائب فريد البستاتي.

يمثّل مشروع قانون الانتظام المالي خطوة متقدمة في الشكل، لكنها ناقصة في الجوهر ما لم تُستكمل بإجراءات موازية...

يبقى السؤال مفتوحًا: هل يشكّل هذا القانون بداية تصحيح تاريخي لمسار مالي مختل، أم إطارًا قانونيًا لإدارة خسارة جماعية بأقل كلفة سياسية ممكنة؟

 تُظهر التجارب الدولية المشابهة  أن التشريع وحده لا يصنع العدالة، بل طريقة تطبيقه وتحديد من يدفع الكلفة.

لبنان في مرآة اليونان وآيسلندا وقبرص

في اليونان، بعد أزمة الديون السيادية عام 2010، فُرضت برامج تقشف قاسية بإشراف الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد. ورغم إعادة هيكلة الدين، فإن العبء الأكبر وقع على المواطنين عبر خفض الأجور والمعاشات ورفع الضرائب، فيما بقيت المصارف محمية نسبيًا. النتيجة كانت استقرارًا ماليًا هشًا مقابل كلفة اجتماعية هائلة، وانكماش اقتصادي طويل.

هذه التجربة تُظهر خطر اعتماد "الاستقرار الحسابي" على حساب العدالة الاجتماعية، وهو مسار يحذّر كثيرون من تكراره في لبنان.

في المقابل، شكّلت آيسلندا نموذجًا مختلفًا بعد انهيار نظامها المصرفي عام 2008. فقد اختارت الدولة حماية المودعين المحليين، وسمحت بسقوط المصارف المتورطة، وفرضت خسائر مباشرة على المساهمين والدائنين الكبار، بل وذهبت أبعد عبر ملاحقات قضائية لمديرين مصرفيين. ورغم الصدمة الأولية، استعادت البلاد نموها بسرعة، واستعادت الثقة بالمؤسسات.

هذا النموذج يبرز أن العدالة ليست عائقًا أمام التعافي، بل شرطًا له.

أما قبرص، فاختارت مسارًا وسطًا خلال أزمتها عام 2013، عبر فرض اقتطاعات مباشرة (Bail-in) على الودائع الكبيرة التي تفوق سقف الحماية، مقابل حماية صغار المودعين. ورغم قسوة القرار، اتسم بالوضوح والسرعة، ما سمح للنظام المصرفي بالتعافي نسبيًا خلال سنوات قليلة. غير أن الثمن كان فقدان الثقة طويل الأمد لدى شريحة من المودعين والمستثمرين.

أين يقف المشروع اللبناني؟

بالمقارنة مع هذه النماذج، يبدو الطرح اللبناني أقرب إلى النموذج اليوناني في الشكل، من حيث التدرج والرهان على الوقت، من دون أن يذهب حتى الآن إلى حسم شجاع على طريقة آيسلندا، أو إلى وضوح قاسٍ على طريقة قبرص.

فاسترداد الودائع بالتقسيط، وربطها بأدوات مالية وأصول مستقبلية، قد يحمي الاستقرار السياسي الآني، لكنه يهدد بإطالة أمد انعدام الثقة.

 في الخلاصة، يقف لبنان اليوم أمام مفترق طرق شبيه بما واجهته دول أخرى في أزماتها الكبرى. فإما أن يتحول قانون الانتظام المالي إلى مدخل لإعادة تأسيس عقد مالي–اجتماعي جديد، على غرار التجربة الآيسلندية، أو أن يصبح إطارًا قانونيًا لإدارة خسارة طويلة الأمد، شبيهة بما عاشته اليونان، مع بعض ملامح النموذج القبرصي. الرهان الحقيقي ليس على النص القانوني وحده، بل على القرار السياسي: من يدفع الثمن؟ وبأي اسم تُسمّى الخسارة؟


أحدث مقاطع الفيديو
مشاهدة :56899 السبت ٢٠ / يناير / ٢٠٢٥
مشاهدة :53965 السبت ٢٠ / يونيو / ٢٠٢٥
مشاهدة :53006 السبت ٢٠ / يناير / ٢٠٢٥