Lebanon News I ليبانون تابلويد : أخبار الساعة من لبنان والعالم!


زيارة البابا: الصوت الحضاري والأخلاقي لفلسطين في وجه مزايدات الإسلام السياسي

في لحظةٍ تتنازع فيها الخطابات الدينية والمزايدات السياسية على معنى القضية الفلسطينية، جاءت زيارة البابا لتعيد الاعتبار للصوت الحضاري والأخلاقي- الانساني.

الجمعة ٢٨ نوفمبر ٢٠٢٥

اخبار ليبانون تابلويد الآن عبر خدمة
اضغط هنا

 أنطوان سلامه– يصل البابا إلى لبنان من «البوابتين» التركية والإسلامية معًا؛ بوابة جغرافية وسياسية تشكّلت عبر قرون من حضور السلطنة العثمانية، آخر تجليات الخلافة الإسلامية في التاريخ الحديث باعتبارها دولة شرعية معترفًا بها دوليًا حتى انهيارها بعد الحرب العالمية الأولى.

ومن أنقرة، يدخل البابا إلى المشهد اللبناني محمولًا على إشادةٍ واضحة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بمواقفه من القضية الفلسطينية، بعدما التقاه وأعرب عن أمله في أن تحمل زيارته الخارجية الأولى كزعيم كاثوليكي بارقة أمل في عالمٍ يزداد اضطرابًا.

ليست أهمية هذه الإشادة في كونها «شهادة» بقدر ما تكشف عمق الانقسام الدولي(اللبناني ضمنا) حول مقاربة القضية الفلسطينية. فقد فقدت هذه القضية الكثير من زخمها التاريخي السياسي حين أصرّ الإسلام السياسي، بشقّيه السني والشيعي، على تحويلها إلى قضية دينية خالصة، أو إلى «وقفية إسلامية»؛ وهو خيار يعاكس تمامًا المرحلة التي برزت فيها منظمة التحرير الفلسطينية كحركة تحرّر وطني ذات خطاب مدني عابر للطوائف.

هذا التحويل ساهم، بشكلٍ غير مباشر، في إعطاء شرعية للنظريات الدينية اليهودية التي يقوم عليها اليمين الإسرائيلي المتطرف، باعتبار إسرائيل «معطى دينيًّا» لا سياسيًا.

منذ النكبة، قاربت القوى المسيحية في لبنان القضية الفلسطينية بمنظار مختلف. فعندما دافعت المارونية السياسية عن أولوية منطق الدولة على منطق العمل الفدائي غير المنضبط، صُوّرت كأنها خارجة عن «الإجماع»(انعزالية)، وحين اتجهت لاحقًا نحو خيار «الحياد» – باستثناء الالتزام السياسي والأخلاقي بالقضية الفلسطينية – شُنّت عليها حملات تخوين قاسية، من دون إدراك لطبيعة التلازم بين الموقف البطريركي والمقاربة الفاتيكانية الأوسع.

فالفاتيكان تاريخيًا، تبنّى مواقف واضحة في دعم الحقوق العربية، ورفض العدوانية العسكرية، بدءًا من معارضة مبدأ «الحرب الاستباقية» الذي مهّد لاحتلال العراق، ووصولًا إلى المواقف شبه اليومية للبابا فرنسيس المنددة بالاجتياح الإسرائيلي لغزة، في وقت غابت فيه مواقف مشابهة عن عواصم كبرى في العالم الإسلامي.

ولعلّ من أبرز المحطات التي تُظهر عمق المقاربة الفاتيكانية للقضية الفلسطينية، تلك الزيارة التاريخية للبابا يوحنا بولس الثاني إلى بيروت في أيار 1997 لإعلان الإرشاد الرسولي «رجاء جديد للبنان». فخلال تلك الزيارة، وفي خطاب شهير ألقاه في ساحة الشهداء، شدّد على أن “السلام الحقيقي لا يُبنى بالقوة بل بالعدالة”، في إشارة واضحة إلى الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان يومها. كما دعا إلى “الاعتراف المتبادل بالحقوق المشروعة للشعبين اللبناني والفلسطيني”، وهو موقف تَقدّمي بمقاييس ذلك الزمن، شدّد فيه على البعد الإنساني–الحقوقي للقضية الفلسطينية، لا على بعدها الديني. وقد عُدّت تلك اللحظة مفصلية في تعزيز الدور الأخلاقي للفاتيكان في المنطقة، وإبراز لبنان كجسر حضاري لا كساحة صراع طائفي.

ولم يكن هذا النهج الفاتيكاني شبيهًا على الإطلاق بالمقاربة الإيرانية. فموقف المرشد علي خامنئي من حرب غزة انطلق من سردية سياسية–أيديولوجية مرتبطة بالصراع الإقليمي وبمنظومة النفوذ. وبذلك، بدا أنّ الخطابين الإسلامي السني والشيعي، كلٌ بطريقته، يجرّان القضية الفلسطينية من بعدها الإنساني العالمي إلى حيز ديني–مذهبي، وهو ما يصبّ مباشرة في خدمة اليمين الإسرائيلي الذي لا يحتاج أصلًا إلى ذرائع إضافية.

إنّ المبالغة في الاحتفاء المشهدي بزيارة البابا إلى لبنان، على أهميتها الرمزية، لا يجب أن تحجب جوهر المسألة: أنّ تحويل القضية الفلسطينية إلى قضية دينية يُفقدها أساس قوّتها التاريخية. فقد كانت قضية تحرّر وطني ذات بعد إنساني وحضاري، قادرة على حشد رأي عام عالمي واسع. وأبرز مثال على ذلك أنّ أقوى الضغط المعنوي الذي تعرضت له حكومة نتنياهو جاء من الفاتيكان ومن ملايين المتظاهرين في الجامعات الأميركية وشوارع باريس وبرلين ومدريد، أي من المساحات التي تنظر إلى فلسطين باعتبارها قضية أخلاقية كونية لا نزاعًا دينيًا.

من هنا، يصبح السؤال ملحًّا: ما الجدوى من تضييق هذه القضية الكبرى إلى إطار مذهبي محدود، بينما أثبت التاريخ – من الانتفاضة الأولى إلى تظاهرات العواصم الغربية اليوم – أن قوتها الفعلية تكمن في قدرتها على اختراق الوجدان الإنساني العالمي؟


أحدث مقاطع الفيديو
مشاهدة :56791 الجمعة ٢٨ / يناير / ٢٠٢٥
مشاهدة :53845 الجمعة ٢٨ / يونيو / ٢٠٢٥
مشاهدة :52889 الجمعة ٢٨ / يناير / ٢٠٢٥